الحربُ الوَحْشِيَةُ وأزْمَةُ الضَّمِيرِ الإِنْسَانِي
الحَرْبُ هي الحربُ منذُ الأَزَلِ، وجْهُهَا أحمرُ وطَبْعُهَا دَمَوِيٌّ. هي الوَجْهُ الآخَرُ للقتلِ والتَّدْمِيرِ والتَّشْرِيدِ والتَّجْوِيعِ وغيرها من المصائِبِ والوَيْلاتِ. لكن مع ذلك يمكننا أن نَتحدَّث عن حرب شَرعِيَّةٍ تُنَفَّذُ منْ أجلِ استِرْدادِ حَقٍّ ودَفْعِ عُدوانٍ خارجي وتنتهي مُهمتُها. أي أنها تتحرَّكُ ضمن إطارٍ زمكاني، وتَكُونُ محدودةً بأفُقٍ سِياسيٍّ منْ أَجلِهِ تُضَحِّي الأوطانُ بأرواحِ أَبنائِها وتَتَحَمَّلُ الخَسائِرَ الجَسِيمَةَ. وفي المقابل يمكننا التحدث عن حَرْبٍ غيرِ شرعيةٍ، عُدوانِيَّةٍ، فَاقدةٍ لِلأسبابِ والأهدافِ. حرب عبثية قد تكون وسيلةً لِإِشباعِ نَزَعاتِ الانتقامِ من أجل الانتقام، والتدميرِ من أجلِ التدميرِ، والقتلِ من أجل القتل، وبدون أهدافٍ مَعقولةٍ محدَّدَةٍ و بدون أفقٍ سياسي محدَّدٍ. وهذا المفهومُ البشعُ للحرب هو ما نَرَاهُ مُطَبَّقًا بِشكلٍ جَلِيٍّ في غزة.
في هذا الإطار أيضا يمكننا التحدث عن «أخلاق الحرب» . وبوسعنا أن نستحضرَ نماذجَ كثيرة للحروبِ المطبوعة بِطابَعِ الأخلاقِ منذُ فَجرِ التاريخ العربي والإنساني القديم. ولقد كانت الغزواتُ والفتوحاتُ العربية الإسلامية بِاعترافِ وشهاداتِ مؤرخي الغَربِ خَيرَ شَاهِدٍ على تَلازُمِ الحربِ والأخلاقِ. ففي تلك الأزمنة السَّحِيَقِة، التي لم تكنْ فيها معاهدٌ للدِّرَاسَاتِ الاسْتراتيجيَّةِ وأكاديمياتٌ عسكريةٌ ولا محاكمُ جِناياتٍ دوليةٍ، كان بالتأكيدِ وُجُودٌ لِشَيْءٍ يُعَبِّرُ عنْ تَحَضُّرِ المُجتمعاتِ ويُجَسِّدُ رَهَافَةَ حِسِّهِمْ الأَدَمِيِّ اسْمُهُ:«أخلاقُ الحَرْبِ». رغم ما يرويه التاريخ عن هَمَجِيَّةِ قَادَةِ حربٍ مشهورين ووحشيةِ حُروبِهِمْ ، كانتْ في سَماءِ الماضي المظلمِ بُقَعُ نُورٍ كثيرةٍ. فمقابل وَحْشِيَّةِ عسكريين أفرادٍ وجيوش غزاة بربريين، كانت هنالك جيوشٌ نِظامِيَّةٌ تَحكُمُها مَرْجِعَيَّةٌ حضاريةٌ وأخلاقيةٌ، عَرفَتْ كيفَ تُحافِظُ على التَّوَازُنِ بينَ ضَرورَةِ الحَربِ وقوانِينِهَا. فحتى عندما تُكَشِّرُ الحَرْبُ عنَ أَنْيَابِهَا ويتأجَّجُ سُعَارُهَا كانتِ الأخلاقُ تُوجِّهُ سُلوكَ المُحاربِينَ وتَمْنَعُهُمْ من ارتكابِ الفَظائِعِ خاصةً في بَيْئَاتِ المدنِيِّينَ المُسالِمِينَ، وكانت تُرغِمُهُمْ على الإِنْصَاتِ لِأصواتِ ضَمائِرِهِمْ. كما كانت تَحُثُّهُمْ على عَدَمِ الاسْتِجَابَةِ لأصواتِ الانتقامِ المُنطلِقَةِ منْ أعماقِهِمْ، وتُنَبِّهُهُمْ إلى ضَرورةِ الرَّأْفَةِ بالنماذِجِ البَشرية التي تُعْوِزُها القُدْرَةُ والحِيَلةُ على رَدِّ العدوان أو الإفلاتِ منه، من قبيلِ الأطفالِ والشيوخِ والنِّساءِ.. بل إن الغربَ نفسَهُ كان يَتَبَجَّحُ، في عُصورِهِ الوُسطى خاصةً، بامتلاكِه ثقافةَ الفُروسِيةِ النَّبِيلَةِ. وكثيرًا ما كانتْ «روايات الفروسية» خاصةً تُظْهِرُ الفُرسانَ في صُوَرِ أَنْصَاِف الآلهةِ المُتَرَفِّعَةِ عنِ الظلمِ والتي لا تَتَرَدَّدُ في حِمايَةِ المَرأَة على وجهِ الخصوص منْ صُنُوفِ الأَذَى التي يمكن أن تَتَعَرَّضَ لها من طَرِف قُطَّاعِ الطُّرُقِ والمُجرِمين.(كما تشير إلى ذلك رواية "دونكيشوت" ل "سرفانتيس)..
هي إذن أخلاقُ حَرْبٍ فِطريَّةٍ تَمَخَضَتْ عنها قوانينُ حَرْبٍ غيرِ مَكتُوبَةٍ، كانت المجتمعات القديمة تتوارثُها في شَكْلِ دُسْتُورٍ عُرْفِيٍّ. وذلك كان معروفًا ومُطَبَّقًا قبلَ وُجُودِ شَيْءٍ اسمُهُ «القانونُ الدولي».
وبعد قرونٍ طويلةٍ، من الضروري أن نتساءل بنوع من الحَسرَةِ والأَلَمِ:
أين نحن من أخلاقِ الحربِ ومن الضَّمِيرِ الإنساني بخصوص ما يَجري في غزة من جرائم وانتهاكاتٍ ودَوْسٍ على القِيم الإنسانيةِ وَتمَرُّدٍ على الأعْرافِ والقوانين الدولية؟؟..
لا وجودَ لكلمات أو عبارات كفيلةٍ بوصف ما تَرتكِبُهُ آلةُ الحرب الوحشية من جرائمَ على أرضِ غزةَ الأبية منذُ شهورٍ وعلى مَدارِ الساعة..
أهوالٌ تفوقُ الخيالَ، وإرهابُ دَولةٍ لم يَسبِقْ له مثيلٌ في التاريخِ الإنساني القديم والمعاصر.
الضميرُ الإنساني مصدومٌ وبلاغة التعبيرِ عاجزةٌ. والأخلاقُ مُرتَعِبةٌ. والعقلُ السليمُ لا يُصَدِّقُ ما يَراهُ ويَسْمَعُهُ منْ مَشاهدَ وأخبارٍ يَنْبُو عنْهَا الطَّبْعُ السَّوِيُّ وتَكرهُها الحضارة. والإنسانية جاحِظَة العينين، في حالة ذُهولٍ، لا تدري أهي أمام كابوسٍ مرعِبٍ أمْ أمام حقائقَ مُفْزِعَةٍ.
هذه الإنسانية التي اعتقدت أنها طَوَتْ عصورَ التوحُّشِ والهَمَجِيَّةِ، وفتحتْ صفحةً جديدةً مشرقةً في سِجِّل تاريخها المظلم استفاقتْ على واقعٍ صادمٍ تُوثِّقُه كاميراتُ المتابعين، وتَعرضُ بشاعتَه الشاشاتُ العالمية بشكلٍ مُقْرٍفٍ ومُستفزٍّ وجارحٍ للضمير والمشاعرٍ الإنسانية. مما يؤكد بما لا يَدَعُ مجالا للشك أنَّ مَنْ ظنَّ أن الإنسانية المعاصرة قد قَبَرَتْ ماضيها المظلم وإلى الأبَد فهو وَاهِم.
و بوسعنا الجزم بأن المشاهدَ التي رآها العالم في غزة ما هي إلا صور جديدة للجرائم الأسطورية التي تَحدَّثَ عنها التاريخ من قَبِيل مَحارق "نيرون" ومجازر "التتار" و"الصليبيين" وما يشبهها في تلك العصور القديمة المتوحشة. بل قد لا نبالغ إذا ما قلنا إن جرائم الماضي البعيد لا قيمةَ لها أمام هَوْلِ وفَظاعة المجازر المعاصِرة التي تُقْتَرَفُ يوميا في غزة خصوصا وفي فلسطين على العموم.
ما الذي حل بالضمير العالمي وماذا دهاه وأصابه بالشلل؟، ما باله تَسمَّر في وَضْعِ المَشدُوه المتفرِّج على هذه الأحداث الدامية الجارية على أرض غزة وكأنها تدور في كوكب آخر لا يعنيه؟.
قد يَتَقَبَّلُ العقل الإنساني وقوعَ جرائم في عصور الظلام الماضية على اعتبار أن الإنسانية لا تزال أقربَ إلى عَهدِها البدائي البَربَري الأول، حيث كانت تعيش جَنْبًا إلى جَنبِ الحيواناتِ المفترسة والضواري القاتلة. وكان قَدَرُ الإنسان القديم أن يتحول- بحكم الواقع المَعِيش وتعايُشِه اليومي مع تلك الوحوش- إلى وحش دموي ليدافع عن نفسه ووجوده بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة حتى ولو اقتضى منه الدفاعُ عنِ النفس إبادةَ عَشيرةِ حيوانات بِأكمَلِها!.
ولقد كانت الظروفُ مواتيةً في الماضي البعيد للطغاةِ المجرمين وللسفَّاحين أن يرتكبوا جرائمَ فظيعة حيثما شاؤوا، وبكل الطُّرُقِ التي تُمكِّنُهُم من إشباعَ غريزةِ القتل المتحكِّمةِ في نفوسِهم المريضةِ، بعيدا عن أنظار الإنسانية، وفي عالم واسع مترامي الأطراف مفتقرٍ لوسائل التواصل السمعية والمرئية..
أما أن يَرتكبَ أشرارٌ معاصرون جرائمَ إبادةٍ جماعيةٍ أمامَ أنظارِ «العالم»، بما يعنيه من منظمات للأمم المتحدة ومنظمة المؤتمر الإسلامي والجامعة العربية، وأمام حُماةِ الأخلاق ورجالاتِ القانون والفِكر..وأن تُمَارَسَ أشكالٌ رهيبةٌ من القَتْلِ الجماعي للأطفال والنساء والشيوخِ، وتَتِمَّ إباداتٌ جماعيةٌ لِأُسَرٍ بأكملها، وَتُدَمَّرَ أحياءٌ سَكَنِيَّةٌ بِرُمَّتِهَا، أمام هيئاتِ ومنظماتِ حُقوق الإنسان ومحاكِم العدلِ والجنايات الدَّوليةِ التي بَناها الإنسانُ من أَجْلِ القَطعِ مع عُهود السِّيبَة والعَنْجَهِيَّةِ والسلوكيات الحيوانية ..فهذا أمرٌ مدهشٌ حقا ومخيف!.
إنَّ ما نُشاهده ونَسمعُه اليوم من فظائع شيءٌ رهيبٌ لا يُساعد على التفاؤلِ بشأن مُستقبلِ الإنسانية!.

والحق أنه إذا كان لهذه الحربِ القَذِرَةِ من إِيجابِيَّةٍ ما- والحربُ كلها مساوئ وقذارات- فهي أنها فَضَحتْ عُيوبَ الإنسانيةِ المعاصرة وكشفتْ عن جُملة حقائق:
أولها – سلبية وضعف هذه المؤسسة المعروفة ب «الأمم الأمم المتحدة» التي تحولتْ أمام غَطرسة ثُلَّةٍ من الأفَّاقِينَ، المتمرِّدِينَ على القانونِ الدولي، إلى مؤسسةٍ واهية ، أشبه ببيت عنكبوتٍ، مَنزوعةِ القُوَّةِ والإرادةِ من ناحية، ونفاقُ«مجلس الأمن » التابع لها من ناحية أخرى.
إنه مجلس صُوري. وُجودُهُ كعدَمِه. لا يُساعد على حلِّ المشاكلِ العالمية. بل على العكس يُساعد على تَفاقُمِها وتعقيدها. يَتشكلُ من فُرَقاءَ تجمعُهم المصلحةُ الخاصة المشتركة وتُفرِّقُهم شكلياتٌ لا يُعتدُّ بها.
لذلك يُمكنُ تَصنيفُهُم شَكليا إلى فِرقٍ ثلاثة:
فريق أول، يتميز أعضاؤه بالصَّلَفِ والطغيان، يمارسُ التحريضَ على العدوان بمختلف الأساليب..
وفريق ثان، يَتَّسم بالجُبنِ والسلبية التامة، ويكتفي بالتَّمَتْرُسِ وراء الصمتِ المريب..
فريقٌ ثالثٌ، منْ عادتِه ممارسةُ لُعْبَةِ اللَّفِّ والدَّوران حول الحقائقِ السَّاطِعَةِ وتقمُّصُ أقنِعةِ النِّفَاقِ بكلِّ ألوانها..
لقد برهنتْ هذه الحربُ الظالمة على أن القَيِّمِينَ على تَصريف أعمال هاتين المؤسستين الدوليتين ما هم إلا تَكَتُّلًا مصلحيا مُتَشَكِّلًاً من ذوي نفوذٍ اقتصادي وسياسي، خَتَمَتِ المصالحُ الماديةُ على قلوبِهم وأسماعِهم وأبصارِهم وجَعلَتهُم كائناتٍ رُبُوتِيةً صَلبةً فاقِدةً لأيِّ نوعٍ من أنواعِ الشُّعورِ الإنساني الفطري. فصاروا كائناتٍ آليةً لا تَسمعُ ولا تَرى ولا تُحسُّ بِغَيرِ ما يتناغمُ مع تلك المصالح. لهذا من الطبيعي ألا يَروا الدَّمَ المسفوحَ بغزارة في الشوارع وتحت أسقُفِ البنايات بغير حقٍّ، وألا يَسْمَعُوا أنَّاتِ الأطفال والنساءِ والشيوخِ تحت الأنقاض و صَرخاتِ الجَوعى والعَطشى، وألا يُحِسُّوا بألمِ الجرْحى واليتامى والمُشَرَّدِين..
مجلس الأمن ما هو إلا نادٍ للأقوياء. بل الأرجح أنه محمية تَضِجُّ بِزئير وقرقعات أنياب المصالح. لهذا من الطبيعي ألا تسمع فيه صرخات الضعفاء والمستضعفين في الأرض. وبالتالي من حقِّ كلِّ مُتتبِّعٍ لوضْعِ هذه الهَيْئَةِ الأمَمِيةِ السلبي، والمتواطِئ في آنٍ واحدٍ، أن يَقتنعَ بضرورة إحداثِ تغييرٍ جَذريٍّ في هَياكِلِهَا وأسلوبِ عَملِها. أجل إنها، بتركيبتها التَّمثيليةِ الحالية، غيرُ جديرةٍ بأن تكون مُنَصَّبةً في هذا المَقامِ، وليس منْ حقِّها أن تُمثِّلَ الأممَ وشعوبَ العالمِ، لأنَّها مؤسَّسَةٌ مَخلوقةٌ منذُ البَدْءِ لكي تَخدمَ فقط مصالحِ الأقلية المُتَنَفِّذَةِ والمُسيطِرةِ على الاقتصاد العالمي .
ثانيها- نِفاقُ الغربِ وسُقوطُه الأخلاقي: فلطالما تغنَّى الغرب ب«حقوق الإنسان» وردَّدَ هذه الأسطوانةَ على أسْمَاعِ «العالمِ غيرِ المُتحضِّر». وما أكثر المناسبات التي تَظاهرَ خلالها باعتباره الحامي لحقوقِ الإنسان وتَبَاهى بِكَوْنِ بلدانِهِ منابعَ حُقوقِ الإنسان. ولم يَكتفِ بذلك بل كثيرًا ما يُبادرُ إلى إِشْهارِ ورقة حقوقِ الإنسان الحمراء في وَجْهِ حكوماتِ بلدانِ العالم الثالثِ وفَرْضِ عقوباتٍ مختلفة عليها..
هذا «الغرب المتحضِّرُ» هو الذي يَظهرُ خلال هذه الأيام في قَمِيصِ الخَاذلِ المتنكِّر لِقِيَمِ أَسْلافِهِ التَّنوِيرَيِّينَ. وهو الذي يَتحيَّزُ وبِشَكلٍ سَافِرٍ إلى مُجرمي الحربِ ويُباركُ جرائمَهم ويناصرُ قَراراتهم المُتَطرِّفَة. وهو نفسه الذي تنكَّر لِثَوَرَاتِهِ الكُبرى التي نَشأتْ في بُلدانِهِ منْ أَجْلِ كَنْسِ الظُّلْمِ وفَرْضِ قِيَّمَ الحَقِّ والعدلِ والمُساواة.. وغيرها من الشِّعاراتِ التي تَردَّدَتْ على ألسِنة مفكري عَصرِ التنوير.
ولا غرابة أن يُلقي زُعماء هذا «الغرب المتحضر» - بَدءًا بالولايات المتحدة الأمريكية ومرورًا بكندا و بفرنسا وألمانيا وإيطاليا..- بِدُستُورِ حُقوق الإنسانِ وميثاقِ الشَّرعية الدولية خلفَ ظُهورهم، ويَتَنَصَّلُوا، بدون أن يَرِفَّ لهم جفنٌ، من التزاماتهم القانونيةِ والأخلاقية ويَتَنَاسَوا فجأةً شِعاراتهم التي ما انفكُّوا يَتَبَجَّحُون بها في كلِّ المنتدياتِ والمُناسَباتِ!.
ولا غرابة كذلك أن يتسابقوا لترديد تلك المقولات الشهيرة المُبرِّرَةِ للاستعمار والعدوان على الآخرين من قبيل : الحرب بين «الخير والشر»..وبين «الإنسان المتحضر والحيوانات»..
كل هذا من أجل المحافظة على التَّكتُّلِ المصلحي الذي يَجمعُهمْ.
فمن أجل حمايةِ مصالحِ الغرب المُتَّحِدِ، كان لا بدَّ لهؤلاء الزعماء من الوقوفِ ضِدَّ الحقِّ ومُناصَرةِ الظُّلْمِ وكمِّ الأفْواه المُعارِضة للعُدوان في بلدانهم، ومنع المظاهرات وقَمعها أحيانًا..والاصْطِفَافِ بِلاَ قيدٍ أو شَرطٍ خَلفَ الولايات المتحد الأمريكية.
أما عن هذه الأخيرة، فإن موقفها وتصرفها أمام العدوان على غزة يؤَكِّدانِ، لمن لا تزال بِنَفْسِهِ ذَرَّةُ شَكٍّ، أن تَحوُّلاً جذريا ما قد طَالَ سياسةَ هذه الدولة العظمى. أي أن الولايات المتحدة اليوم ليستْ الولايات المتحدة بالأمسِ. لقد تغيَّرَ وضعُها وأنَّ علينا، نحن العرب، كذلك أن نَتغيَّر، و نُغَيِّرَ بالتالي مَواقِعَ النظرِ إليها ونُجَدِّدَ منطلقاتِ التعاملِ معها. لقد أخلصت لنَهْجِهَا التَّقليديِّ المتَّبَعِ في تعاملها مع القضايا العربية، وأكدت أن مصالحَها تَعلُو على مصالح أصدقائها العرب، وأن خطابها السياسي الموجَّهَ إلى القادة العرب في هذه الظروف صريحٌ لا لُبْسَ فيه ولا يَقبَلُ التأويل.
وأن على القادة العرب أن يُخَفِّضُوا سَقْفَ انتظاراتهم في تعاملهم مع السياسة الأمريكية، المعاصرة على الأقل، و أن يغيروا مَسَارَ جُهودِهم وتفكيرِهم ونواياهم الحسنة لكي يَصُبَّ فيما يَخدِمُ مَصالحَهم القُطريَّةَ والقَوميَّةَ. وبدَلَ إهْدارِ الوقت في انتظار تَغَيُّرِ السياسة الأمريكية، وِفْقَ المنظور العربي وما ينسجم مع المصالح العربية، يَجِبُ أن يَنكبُّوا على بناء طاقات الرَّدْعِ المحلية المتنوعة، وبناء الشخصية السياسة العربية القوية، ويُبادِرُوا إلى نَسْفِ هَيْكَلِ الجامعة العربية التقليدي المُتَآكِلِ وإعادةِ بِنَاءِ جامعةٍ عربيةٍ جديدةٍ على أُسُسٍ مَتِينَةٍ، قَاعدتُها شعوبٌ مُثقفة مُكَرَّمَةٌ وسَقْفُهَا حُكَّامٌ شَرعيُّونَ مُخلِصُونَ لِأوطانِهم ولِأُمَّتِهِمْ. فَبِغَيْرِ هذه الطريقة لا يُمكِنُ لِلْعَقْلِ السياسي العربي أن يُسْمِعَ الآخرَين صوتَهُ . ولا يمكن للذات العربية أن تَفْرِضَ على الأقوياء مطالبَها المشروعة، وبالتالي لا يمكن للعرب أن يَتَبَوَّؤُوا مَكانَةً مُحترَمة في عالم اليوم.
إن الرِّهانَ على امتلاكِ القوة الذاتية هو ما تَبَقَّى للعرب من أوراقٍ بَعدَما خَسِرُوا كلَّ أوراق اللعب السياسي مع أمريكا والقوى الغربية المرتبطة بها، وأضاعوا كل الرهانات وعقودا طويلة من العيش في الاوتوبيا. طوفان الأقصى قد دق الأجراس ووقتُ الصَّحْوَةٍ والعودةٍ إلى الواقِعِيَّةِ قد حَانَ. أما انتظار قدومِ «غودوGODOT» الحُلُولِ السياسيةِ للأزمات العربية من مجلس أمن صوري، وعلى الصورة وبالتشكيلة التي هو عليها الآن تحت المظلة الأمريكية، فهو مضيعَةٌ للوقتِ وعيشٌ على الأوهامِ. واللُّهاثُ وراءَ وُعُودٍ عَسَلِيَّةٍ من قبيل «حل الدولتين» ما هو إلا لهاثٌ خَلفَ سرابٍ. و«إنك لا تجني من الشَّوْكِ العِنَبَ، كما يقول المثل العربي. لسنا من المتشائمين ولا من يَشْرَئِبُّ إلى الغَدِ بِنظَّارَةٍ سَوداءَ ، ولكن ما يَجري بغزة ومواقفَ #القِوى #العظمى منهُ لا يبعثُ على التَّفاؤُلِ مع الأسف.
ويَبقى عَزاؤُنا الوَحيد وأملُنا في هذه الظروفِ العربية القاتِمَةِ هوما يُسَطِّرُهُ أبطالُ المقاومةِ الشجعان من ملاحمَ أسطوريةٍ لم يرَ لها تاريخُ البشريةِ مثيلاً بِحِبرٍ نُورانِيٍّ، مِزَاجُهُ دمٌ وعَرَقٌ وجُوعٌ وعَطشٌ وصَبرٌ وألمٌ وحُلُمٌ بِغَدٍ أفضل.....□ ‏نظرية الحصان الميت (Dead Horse Theory) ..
هي استعارة ساخرة توضح بأن هناك بعض الناس أو المؤسسات أو الشعوب تتعامل مع #مشكلة واضحة وكانّها غير مفهومة، لكن بدل الاعتراف بالحقيقة، يتعامون ويتفننون في تبريرها والفكرة ببساطة :
لو اكتشفت بأنك راكباً على حصان ميت، فإن أفضل حل وأبسطه هو أن تنزل من فوقه وتتركه ولكن الواقع فعليًا :
أنَّ هناك أناس أو #مؤسسات أو @شعوب بدلاً من أن تنزل من على الحصان، يتخذون اجراءات اخرى مثل :
1. يأتون بسرج جديد ..
2. يأتون بالعلف للحصان ..
3. يغيرون الفارس الذي يركبه ..
4. يعزلون الموظف الذي يتولى رعايته ويأتون بموظف جديد بدلاً عنه ..
5. يعقدون اجتماعات لمناقشة اجراءات لزيادة سرعة الحصان ..
6. تشكيل لجان وفرق عمل لدراسة الحصان الميت وتحليل الموضوع من كل الجوانب، فاللجنة تعمل لأشهر ثم ترفع التقارير ومقترحات حلول للحصان ميت ..
7. في النهاية، اللجان تتوصل لنفس النتيجة، المعروفة من البداية "الحصان ميت" ..
8. ولكن مع ضياع كل الجهد والموارد والوقت، يكابرون في قول الحقيقة، ومن أجل التبرير يقارنون الحصان بأحصن ميتة مثله ويوصون بأن الحصان ميت لأنه ينقصه التدريب، ويحتاج إلى دورة تدريبية ..
9. وهذه الدورة تتطلب زيادة @ميزانية @الحصان ..
10. وفي الأخير يعيدون تعريف #كلمة "ميت" لكي يقنعوا أنفسهم بأن الحصان ما زال حيا ..
□ الدرس المستفاد من هذه #النظرية يكشف كم يوجد هناك من أناس تفضل البقاء في حالة #إنكار للواقع وتضيّع وقتها وجهدها في محاولات فاشلة، بدل من الاعتراف بالمشكلة من البداية ومعالجتها .. #ابومحمدالصفار
الحربُ الوَحْشِيَةُ وأزْمَةُ الضَّمِيرِ الإِنْسَانِي الحَرْبُ هي الحربُ منذُ الأَزَلِ، وجْهُهَا أحمرُ وطَبْعُهَا دَمَوِيٌّ. هي الوَجْهُ الآخَرُ للقتلِ والتَّدْمِيرِ والتَّشْرِيدِ والتَّجْوِيعِ وغيرها من المصائِبِ والوَيْلاتِ. لكن مع ذلك يمكننا أن نَتحدَّث عن حرب شَرعِيَّةٍ تُنَفَّذُ منْ أجلِ استِرْدادِ حَقٍّ ودَفْعِ عُدوانٍ خارجي وتنتهي مُهمتُها. أي أنها تتحرَّكُ ضمن إطارٍ زمكاني، وتَكُونُ محدودةً بأفُقٍ سِياسيٍّ منْ أَجلِهِ تُضَحِّي الأوطانُ بأرواحِ أَبنائِها وتَتَحَمَّلُ الخَسائِرَ الجَسِيمَةَ. وفي المقابل يمكننا التحدث عن حَرْبٍ غيرِ شرعيةٍ، عُدوانِيَّةٍ، فَاقدةٍ لِلأسبابِ والأهدافِ. حرب عبثية قد تكون وسيلةً لِإِشباعِ نَزَعاتِ الانتقامِ من أجل الانتقام، والتدميرِ من أجلِ التدميرِ، والقتلِ من أجل القتل، وبدون أهدافٍ مَعقولةٍ محدَّدَةٍ و بدون أفقٍ سياسي محدَّدٍ. وهذا المفهومُ البشعُ للحرب هو ما نَرَاهُ مُطَبَّقًا بِشكلٍ جَلِيٍّ في غزة. في هذا الإطار أيضا يمكننا التحدث عن «أخلاق الحرب» . وبوسعنا أن نستحضرَ نماذجَ كثيرة للحروبِ المطبوعة بِطابَعِ الأخلاقِ منذُ فَجرِ التاريخ العربي والإنساني القديم. ولقد كانت الغزواتُ والفتوحاتُ العربية الإسلامية بِاعترافِ وشهاداتِ مؤرخي الغَربِ خَيرَ شَاهِدٍ على تَلازُمِ الحربِ والأخلاقِ. ففي تلك الأزمنة السَّحِيَقِة، التي لم تكنْ فيها معاهدٌ للدِّرَاسَاتِ الاسْتراتيجيَّةِ وأكاديمياتٌ عسكريةٌ ولا محاكمُ جِناياتٍ دوليةٍ، كان بالتأكيدِ وُجُودٌ لِشَيْءٍ يُعَبِّرُ عنْ تَحَضُّرِ المُجتمعاتِ ويُجَسِّدُ رَهَافَةَ حِسِّهِمْ الأَدَمِيِّ اسْمُهُ:«أخلاقُ الحَرْبِ». رغم ما يرويه التاريخ عن هَمَجِيَّةِ قَادَةِ حربٍ مشهورين ووحشيةِ حُروبِهِمْ ، كانتْ في سَماءِ الماضي المظلمِ بُقَعُ نُورٍ كثيرةٍ. فمقابل وَحْشِيَّةِ عسكريين أفرادٍ وجيوش غزاة بربريين، كانت هنالك جيوشٌ نِظامِيَّةٌ تَحكُمُها مَرْجِعَيَّةٌ حضاريةٌ وأخلاقيةٌ، عَرفَتْ كيفَ تُحافِظُ على التَّوَازُنِ بينَ ضَرورَةِ الحَربِ وقوانِينِهَا. فحتى عندما تُكَشِّرُ الحَرْبُ عنَ أَنْيَابِهَا ويتأجَّجُ سُعَارُهَا كانتِ الأخلاقُ تُوجِّهُ سُلوكَ المُحاربِينَ وتَمْنَعُهُمْ من ارتكابِ الفَظائِعِ خاصةً في بَيْئَاتِ المدنِيِّينَ المُسالِمِينَ، وكانت تُرغِمُهُمْ على الإِنْصَاتِ لِأصواتِ ضَمائِرِهِمْ. كما كانت تَحُثُّهُمْ على عَدَمِ الاسْتِجَابَةِ لأصواتِ الانتقامِ المُنطلِقَةِ منْ أعماقِهِمْ، وتُنَبِّهُهُمْ إلى ضَرورةِ الرَّأْفَةِ بالنماذِجِ البَشرية التي تُعْوِزُها القُدْرَةُ والحِيَلةُ على رَدِّ العدوان أو الإفلاتِ منه، من قبيلِ الأطفالِ والشيوخِ والنِّساءِ.. بل إن الغربَ نفسَهُ كان يَتَبَجَّحُ، في عُصورِهِ الوُسطى خاصةً، بامتلاكِه ثقافةَ الفُروسِيةِ النَّبِيلَةِ. وكثيرًا ما كانتْ «روايات الفروسية» خاصةً تُظْهِرُ الفُرسانَ في صُوَرِ أَنْصَاِف الآلهةِ المُتَرَفِّعَةِ عنِ الظلمِ والتي لا تَتَرَدَّدُ في حِمايَةِ المَرأَة على وجهِ الخصوص منْ صُنُوفِ الأَذَى التي يمكن أن تَتَعَرَّضَ لها من طَرِف قُطَّاعِ الطُّرُقِ والمُجرِمين.(كما تشير إلى ذلك رواية "دونكيشوت" ل "سرفانتيس).. هي إذن أخلاقُ حَرْبٍ فِطريَّةٍ تَمَخَضَتْ عنها قوانينُ حَرْبٍ غيرِ مَكتُوبَةٍ، كانت المجتمعات القديمة تتوارثُها في شَكْلِ دُسْتُورٍ عُرْفِيٍّ. وذلك كان معروفًا ومُطَبَّقًا قبلَ وُجُودِ شَيْءٍ اسمُهُ «القانونُ الدولي». وبعد قرونٍ طويلةٍ، من الضروري أن نتساءل بنوع من الحَسرَةِ والأَلَمِ: أين نحن من أخلاقِ الحربِ ومن الضَّمِيرِ الإنساني بخصوص ما يَجري في غزة من جرائم وانتهاكاتٍ ودَوْسٍ على القِيم الإنسانيةِ وَتمَرُّدٍ على الأعْرافِ والقوانين الدولية؟؟.. لا وجودَ لكلمات أو عبارات كفيلةٍ بوصف ما تَرتكِبُهُ آلةُ الحرب الوحشية من جرائمَ على أرضِ غزةَ الأبية منذُ شهورٍ وعلى مَدارِ الساعة.. أهوالٌ تفوقُ الخيالَ، وإرهابُ دَولةٍ لم يَسبِقْ له مثيلٌ في التاريخِ الإنساني القديم والمعاصر. الضميرُ الإنساني مصدومٌ وبلاغة التعبيرِ عاجزةٌ. والأخلاقُ مُرتَعِبةٌ. والعقلُ السليمُ لا يُصَدِّقُ ما يَراهُ ويَسْمَعُهُ منْ مَشاهدَ وأخبارٍ يَنْبُو عنْهَا الطَّبْعُ السَّوِيُّ وتَكرهُها الحضارة. والإنسانية جاحِظَة العينين، في حالة ذُهولٍ، لا تدري أهي أمام كابوسٍ مرعِبٍ أمْ أمام حقائقَ مُفْزِعَةٍ. هذه الإنسانية التي اعتقدت أنها طَوَتْ عصورَ التوحُّشِ والهَمَجِيَّةِ، وفتحتْ صفحةً جديدةً مشرقةً في سِجِّل تاريخها المظلم استفاقتْ على واقعٍ صادمٍ تُوثِّقُه كاميراتُ المتابعين، وتَعرضُ بشاعتَه الشاشاتُ العالمية بشكلٍ مُقْرٍفٍ ومُستفزٍّ وجارحٍ للضمير والمشاعرٍ الإنسانية. مما يؤكد بما لا يَدَعُ مجالا للشك أنَّ مَنْ ظنَّ أن الإنسانية المعاصرة قد قَبَرَتْ ماضيها المظلم وإلى الأبَد فهو وَاهِم. و بوسعنا الجزم بأن المشاهدَ التي رآها العالم في غزة ما هي إلا صور جديدة للجرائم الأسطورية التي تَحدَّثَ عنها التاريخ من قَبِيل مَحارق "نيرون" ومجازر "التتار" و"الصليبيين" وما يشبهها في تلك العصور القديمة المتوحشة. بل قد لا نبالغ إذا ما قلنا إن جرائم الماضي البعيد لا قيمةَ لها أمام هَوْلِ وفَظاعة المجازر المعاصِرة التي تُقْتَرَفُ يوميا في غزة خصوصا وفي فلسطين على العموم. ما الذي حل بالضمير العالمي وماذا دهاه وأصابه بالشلل؟، ما باله تَسمَّر في وَضْعِ المَشدُوه المتفرِّج على هذه الأحداث الدامية الجارية على أرض غزة وكأنها تدور في كوكب آخر لا يعنيه؟. قد يَتَقَبَّلُ العقل الإنساني وقوعَ جرائم في عصور الظلام الماضية على اعتبار أن الإنسانية لا تزال أقربَ إلى عَهدِها البدائي البَربَري الأول، حيث كانت تعيش جَنْبًا إلى جَنبِ الحيواناتِ المفترسة والضواري القاتلة. وكان قَدَرُ الإنسان القديم أن يتحول- بحكم الواقع المَعِيش وتعايُشِه اليومي مع تلك الوحوش- إلى وحش دموي ليدافع عن نفسه ووجوده بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة حتى ولو اقتضى منه الدفاعُ عنِ النفس إبادةَ عَشيرةِ حيوانات بِأكمَلِها!. ولقد كانت الظروفُ مواتيةً في الماضي البعيد للطغاةِ المجرمين وللسفَّاحين أن يرتكبوا جرائمَ فظيعة حيثما شاؤوا، وبكل الطُّرُقِ التي تُمكِّنُهُم من إشباعَ غريزةِ القتل المتحكِّمةِ في نفوسِهم المريضةِ، بعيدا عن أنظار الإنسانية، وفي عالم واسع مترامي الأطراف مفتقرٍ لوسائل التواصل السمعية والمرئية.. أما أن يَرتكبَ أشرارٌ معاصرون جرائمَ إبادةٍ جماعيةٍ أمامَ أنظارِ «العالم»، بما يعنيه من منظمات للأمم المتحدة ومنظمة المؤتمر الإسلامي والجامعة العربية، وأمام حُماةِ الأخلاق ورجالاتِ القانون والفِكر..وأن تُمَارَسَ أشكالٌ رهيبةٌ من القَتْلِ الجماعي للأطفال والنساء والشيوخِ، وتَتِمَّ إباداتٌ جماعيةٌ لِأُسَرٍ بأكملها، وَتُدَمَّرَ أحياءٌ سَكَنِيَّةٌ بِرُمَّتِهَا، أمام هيئاتِ ومنظماتِ حُقوق الإنسان ومحاكِم العدلِ والجنايات الدَّوليةِ التي بَناها الإنسانُ من أَجْلِ القَطعِ مع عُهود السِّيبَة والعَنْجَهِيَّةِ والسلوكيات الحيوانية ..فهذا أمرٌ مدهشٌ حقا ومخيف!. إنَّ ما نُشاهده ونَسمعُه اليوم من فظائع شيءٌ رهيبٌ لا يُساعد على التفاؤلِ بشأن مُستقبلِ الإنسانية!. والحق أنه إذا كان لهذه الحربِ القَذِرَةِ من إِيجابِيَّةٍ ما- والحربُ كلها مساوئ وقذارات- فهي أنها فَضَحتْ عُيوبَ الإنسانيةِ المعاصرة وكشفتْ عن جُملة حقائق: أولها – سلبية وضعف هذه المؤسسة المعروفة ب «الأمم الأمم المتحدة» التي تحولتْ أمام غَطرسة ثُلَّةٍ من الأفَّاقِينَ، المتمرِّدِينَ على القانونِ الدولي، إلى مؤسسةٍ واهية ، أشبه ببيت عنكبوتٍ، مَنزوعةِ القُوَّةِ والإرادةِ من ناحية، ونفاقُ«مجلس الأمن » التابع لها من ناحية أخرى. إنه مجلس صُوري. وُجودُهُ كعدَمِه. لا يُساعد على حلِّ المشاكلِ العالمية. بل على العكس يُساعد على تَفاقُمِها وتعقيدها. يَتشكلُ من فُرَقاءَ تجمعُهم المصلحةُ الخاصة المشتركة وتُفرِّقُهم شكلياتٌ لا يُعتدُّ بها. لذلك يُمكنُ تَصنيفُهُم شَكليا إلى فِرقٍ ثلاثة: فريق أول، يتميز أعضاؤه بالصَّلَفِ والطغيان، يمارسُ التحريضَ على العدوان بمختلف الأساليب.. وفريق ثان، يَتَّسم بالجُبنِ والسلبية التامة، ويكتفي بالتَّمَتْرُسِ وراء الصمتِ المريب.. فريقٌ ثالثٌ، منْ عادتِه ممارسةُ لُعْبَةِ اللَّفِّ والدَّوران حول الحقائقِ السَّاطِعَةِ وتقمُّصُ أقنِعةِ النِّفَاقِ بكلِّ ألوانها.. لقد برهنتْ هذه الحربُ الظالمة على أن القَيِّمِينَ على تَصريف أعمال هاتين المؤسستين الدوليتين ما هم إلا تَكَتُّلًا مصلحيا مُتَشَكِّلًاً من ذوي نفوذٍ اقتصادي وسياسي، خَتَمَتِ المصالحُ الماديةُ على قلوبِهم وأسماعِهم وأبصارِهم وجَعلَتهُم كائناتٍ رُبُوتِيةً صَلبةً فاقِدةً لأيِّ نوعٍ من أنواعِ الشُّعورِ الإنساني الفطري. فصاروا كائناتٍ آليةً لا تَسمعُ ولا تَرى ولا تُحسُّ بِغَيرِ ما يتناغمُ مع تلك المصالح. لهذا من الطبيعي ألا يَروا الدَّمَ المسفوحَ بغزارة في الشوارع وتحت أسقُفِ البنايات بغير حقٍّ، وألا يَسْمَعُوا أنَّاتِ الأطفال والنساءِ والشيوخِ تحت الأنقاض و صَرخاتِ الجَوعى والعَطشى، وألا يُحِسُّوا بألمِ الجرْحى واليتامى والمُشَرَّدِين.. مجلس الأمن ما هو إلا نادٍ للأقوياء. بل الأرجح أنه محمية تَضِجُّ بِزئير وقرقعات أنياب المصالح. لهذا من الطبيعي ألا تسمع فيه صرخات الضعفاء والمستضعفين في الأرض. وبالتالي من حقِّ كلِّ مُتتبِّعٍ لوضْعِ هذه الهَيْئَةِ الأمَمِيةِ السلبي، والمتواطِئ في آنٍ واحدٍ، أن يَقتنعَ بضرورة إحداثِ تغييرٍ جَذريٍّ في هَياكِلِهَا وأسلوبِ عَملِها. أجل إنها، بتركيبتها التَّمثيليةِ الحالية، غيرُ جديرةٍ بأن تكون مُنَصَّبةً في هذا المَقامِ، وليس منْ حقِّها أن تُمثِّلَ الأممَ وشعوبَ العالمِ، لأنَّها مؤسَّسَةٌ مَخلوقةٌ منذُ البَدْءِ لكي تَخدمَ فقط مصالحِ الأقلية المُتَنَفِّذَةِ والمُسيطِرةِ على الاقتصاد العالمي . ثانيها- نِفاقُ الغربِ وسُقوطُه الأخلاقي: فلطالما تغنَّى الغرب ب«حقوق الإنسان» وردَّدَ هذه الأسطوانةَ على أسْمَاعِ «العالمِ غيرِ المُتحضِّر». وما أكثر المناسبات التي تَظاهرَ خلالها باعتباره الحامي لحقوقِ الإنسان وتَبَاهى بِكَوْنِ بلدانِهِ منابعَ حُقوقِ الإنسان. ولم يَكتفِ بذلك بل كثيرًا ما يُبادرُ إلى إِشْهارِ ورقة حقوقِ الإنسان الحمراء في وَجْهِ حكوماتِ بلدانِ العالم الثالثِ وفَرْضِ عقوباتٍ مختلفة عليها.. هذا «الغرب المتحضِّرُ» هو الذي يَظهرُ خلال هذه الأيام في قَمِيصِ الخَاذلِ المتنكِّر لِقِيَمِ أَسْلافِهِ التَّنوِيرَيِّينَ. وهو الذي يَتحيَّزُ وبِشَكلٍ سَافِرٍ إلى مُجرمي الحربِ ويُباركُ جرائمَهم ويناصرُ قَراراتهم المُتَطرِّفَة. وهو نفسه الذي تنكَّر لِثَوَرَاتِهِ الكُبرى التي نَشأتْ في بُلدانِهِ منْ أَجْلِ كَنْسِ الظُّلْمِ وفَرْضِ قِيَّمَ الحَقِّ والعدلِ والمُساواة.. وغيرها من الشِّعاراتِ التي تَردَّدَتْ على ألسِنة مفكري عَصرِ التنوير. ولا غرابة أن يُلقي زُعماء هذا «الغرب المتحضر» - بَدءًا بالولايات المتحدة الأمريكية ومرورًا بكندا و بفرنسا وألمانيا وإيطاليا..- بِدُستُورِ حُقوق الإنسانِ وميثاقِ الشَّرعية الدولية خلفَ ظُهورهم، ويَتَنَصَّلُوا، بدون أن يَرِفَّ لهم جفنٌ، من التزاماتهم القانونيةِ والأخلاقية ويَتَنَاسَوا فجأةً شِعاراتهم التي ما انفكُّوا يَتَبَجَّحُون بها في كلِّ المنتدياتِ والمُناسَباتِ!. ولا غرابة كذلك أن يتسابقوا لترديد تلك المقولات الشهيرة المُبرِّرَةِ للاستعمار والعدوان على الآخرين من قبيل : الحرب بين «الخير والشر»..وبين «الإنسان المتحضر والحيوانات».. كل هذا من أجل المحافظة على التَّكتُّلِ المصلحي الذي يَجمعُهمْ. فمن أجل حمايةِ مصالحِ الغرب المُتَّحِدِ، كان لا بدَّ لهؤلاء الزعماء من الوقوفِ ضِدَّ الحقِّ ومُناصَرةِ الظُّلْمِ وكمِّ الأفْواه المُعارِضة للعُدوان في بلدانهم، ومنع المظاهرات وقَمعها أحيانًا..والاصْطِفَافِ بِلاَ قيدٍ أو شَرطٍ خَلفَ الولايات المتحد الأمريكية. أما عن هذه الأخيرة، فإن موقفها وتصرفها أمام العدوان على غزة يؤَكِّدانِ، لمن لا تزال بِنَفْسِهِ ذَرَّةُ شَكٍّ، أن تَحوُّلاً جذريا ما قد طَالَ سياسةَ هذه الدولة العظمى. أي أن الولايات المتحدة اليوم ليستْ الولايات المتحدة بالأمسِ. لقد تغيَّرَ وضعُها وأنَّ علينا، نحن العرب، كذلك أن نَتغيَّر، و نُغَيِّرَ بالتالي مَواقِعَ النظرِ إليها ونُجَدِّدَ منطلقاتِ التعاملِ معها. لقد أخلصت لنَهْجِهَا التَّقليديِّ المتَّبَعِ في تعاملها مع القضايا العربية، وأكدت أن مصالحَها تَعلُو على مصالح أصدقائها العرب، وأن خطابها السياسي الموجَّهَ إلى القادة العرب في هذه الظروف صريحٌ لا لُبْسَ فيه ولا يَقبَلُ التأويل. وأن على القادة العرب أن يُخَفِّضُوا سَقْفَ انتظاراتهم في تعاملهم مع السياسة الأمريكية، المعاصرة على الأقل، و أن يغيروا مَسَارَ جُهودِهم وتفكيرِهم ونواياهم الحسنة لكي يَصُبَّ فيما يَخدِمُ مَصالحَهم القُطريَّةَ والقَوميَّةَ. وبدَلَ إهْدارِ الوقت في انتظار تَغَيُّرِ السياسة الأمريكية، وِفْقَ المنظور العربي وما ينسجم مع المصالح العربية، يَجِبُ أن يَنكبُّوا على بناء طاقات الرَّدْعِ المحلية المتنوعة، وبناء الشخصية السياسة العربية القوية، ويُبادِرُوا إلى نَسْفِ هَيْكَلِ الجامعة العربية التقليدي المُتَآكِلِ وإعادةِ بِنَاءِ جامعةٍ عربيةٍ جديدةٍ على أُسُسٍ مَتِينَةٍ، قَاعدتُها شعوبٌ مُثقفة مُكَرَّمَةٌ وسَقْفُهَا حُكَّامٌ شَرعيُّونَ مُخلِصُونَ لِأوطانِهم ولِأُمَّتِهِمْ. فَبِغَيْرِ هذه الطريقة لا يُمكِنُ لِلْعَقْلِ السياسي العربي أن يُسْمِعَ الآخرَين صوتَهُ . ولا يمكن للذات العربية أن تَفْرِضَ على الأقوياء مطالبَها المشروعة، وبالتالي لا يمكن للعرب أن يَتَبَوَّؤُوا مَكانَةً مُحترَمة في عالم اليوم. إن الرِّهانَ على امتلاكِ القوة الذاتية هو ما تَبَقَّى للعرب من أوراقٍ بَعدَما خَسِرُوا كلَّ أوراق اللعب السياسي مع أمريكا والقوى الغربية المرتبطة بها، وأضاعوا كل الرهانات وعقودا طويلة من العيش في الاوتوبيا. طوفان الأقصى قد دق الأجراس ووقتُ الصَّحْوَةٍ والعودةٍ إلى الواقِعِيَّةِ قد حَانَ. أما انتظار قدومِ «غودوGODOT» الحُلُولِ السياسيةِ للأزمات العربية من مجلس أمن صوري، وعلى الصورة وبالتشكيلة التي هو عليها الآن تحت المظلة الأمريكية، فهو مضيعَةٌ للوقتِ وعيشٌ على الأوهامِ. واللُّهاثُ وراءَ وُعُودٍ عَسَلِيَّةٍ من قبيل «حل الدولتين» ما هو إلا لهاثٌ خَلفَ سرابٍ. و«إنك لا تجني من الشَّوْكِ العِنَبَ، كما يقول المثل العربي. لسنا من المتشائمين ولا من يَشْرَئِبُّ إلى الغَدِ بِنظَّارَةٍ سَوداءَ ، ولكن ما يَجري بغزة ومواقفَ #القِوى #العظمى منهُ لا يبعثُ على التَّفاؤُلِ مع الأسف. ويَبقى عَزاؤُنا الوَحيد وأملُنا في هذه الظروفِ العربية القاتِمَةِ هوما يُسَطِّرُهُ أبطالُ المقاومةِ الشجعان من ملاحمَ أسطوريةٍ لم يرَ لها تاريخُ البشريةِ مثيلاً بِحِبرٍ نُورانِيٍّ، مِزَاجُهُ دمٌ وعَرَقٌ وجُوعٌ وعَطشٌ وصَبرٌ وألمٌ وحُلُمٌ بِغَدٍ أفضل.....□ ‏نظرية الحصان الميت (Dead Horse Theory) .. هي استعارة ساخرة توضح بأن هناك بعض الناس أو المؤسسات أو الشعوب تتعامل مع #مشكلة واضحة وكانّها غير مفهومة، لكن بدل الاعتراف بالحقيقة، يتعامون ويتفننون في تبريرها والفكرة ببساطة : لو اكتشفت بأنك راكباً على حصان ميت، فإن أفضل حل وأبسطه هو أن تنزل من فوقه وتتركه ولكن الواقع فعليًا : أنَّ هناك أناس أو #مؤسسات أو @شعوب بدلاً من أن تنزل من على الحصان، يتخذون اجراءات اخرى مثل : 1. يأتون بسرج جديد .. 2. يأتون بالعلف للحصان .. 3. يغيرون الفارس الذي يركبه .. 4. يعزلون الموظف الذي يتولى رعايته ويأتون بموظف جديد بدلاً عنه .. 5. يعقدون اجتماعات لمناقشة اجراءات لزيادة سرعة الحصان .. 6. تشكيل لجان وفرق عمل لدراسة الحصان الميت وتحليل الموضوع من كل الجوانب، فاللجنة تعمل لأشهر ثم ترفع التقارير ومقترحات حلول للحصان ميت .. 7. في النهاية، اللجان تتوصل لنفس النتيجة، المعروفة من البداية "الحصان ميت" .. 8. ولكن مع ضياع كل الجهد والموارد والوقت، يكابرون في قول الحقيقة، ومن أجل التبرير يقارنون الحصان بأحصن ميتة مثله ويوصون بأن الحصان ميت لأنه ينقصه التدريب، ويحتاج إلى دورة تدريبية .. 9. وهذه الدورة تتطلب زيادة @ميزانية @الحصان .. 10. وفي الأخير يعيدون تعريف #كلمة "ميت" لكي يقنعوا أنفسهم بأن الحصان ما زال حيا .. □ الدرس المستفاد من هذه #النظرية يكشف كم يوجد هناك من أناس تفضل البقاء في حالة #إنكار للواقع وتضيّع وقتها وجهدها في محاولات فاشلة، بدل من الاعتراف بالمشكلة من البداية ومعالجتها .. #ابومحمدالصفار
0 التعليقات 0 المشاركات 48 مشاهدة 0 معاينة
إعلان مُمول